الخميس، 10 أكتوبر 2013

إمضاء الغنوشي يُفشل الانقلاب الناعم

                                         التأسيس الديمقراطي يهزمُ التطاحن على السلطة 

تمرّ تونس بمحطّة تاريخيّة فارقة ، وتشي تطورات الأحداث بأنّ البلاد على قاب قوسين من الخروج من نفق أزمة سياسيّة هي - بحسب العارفين بما يجري في الخفاء ومن وراء الكواليس- الأعقد والأخطر منذ سقوط النظام السابق.
ستشهدُ الأسابيع القليلة القادمة ملامح مشهد جديد في أعقاب تنفيذ خارطة الطريق التوافقية بين مختلف الاطراف السياسيّة ، حيث سيتمّ الانتهاء من كتابة الدستور وتشكيل هيئة مستقلة للانتخابات ووضع قانون انتخابي وسيكون هناك أيضاً حكومة مستقلة ومحايدة تسير بالبلاد نحو سباق انتخابات الوضع الدائم والمستقر.
ستُعاد "سيوف الصراع على السلطة" الى أغمادها وستُنتزعُ فتائل الفتنة والاستقطاب ، سينتهي تقسيم المشهد الى ثنائية احزاب السلطة وأحزاب المعارضة وستنفتحُ أمام البلاد مرحلة أخرى من المنتظر أن تهدأ فيها النفوس وتنخفض فيها درجة التوتّر والاحتقان ، سيتساوى الجميع أمام الشعب وسينطلقون في تنافس جديد محكوم بضوابط واضحة  وقوانين لعبة سياسيّة اتجاهها الاستعداد على قدم المساواة للموعد الانتخابي القادم بنفس الحظوظ وبنفس الإمكانات خاصة في العلاقة بالسلطة التنفيذية وبمختلف أجهزة الدولة.
- مفتاح حقيقي للمستقبل
الحوار الوطني الجاري هذه الايام معلم مهم في مسيرة البلاد ومفتاح حقيقي لجديّة الاطراف السياسية والنخبة وصدقهم تجاه البناء الديمقراطي المنشود، ولقد أوقع الإمضاء التاريخي للأستاذ راشد الغنوشي على وثيقة مبادرة الرباعيّة الانقلابيين ودُعاة الفوضى وأعداء الاسلاميّين وتحديدا حركة النهضة ، أوقعهم ذلك "الإمضاء المشهود" في ورطة حقيقية وفوّت عليهم المضيّ في ما كانوا يُخطّطون له منذ فترة سابقة في تنفيذ انقلاب أبيض (بمناسبة اغتيال الفقيد شكري بلعيد)  أو انقلاب ناعم ( غداة اغتيال الفقيد الحاج محمّد براهمي) كان مرتكزا على ،لا فقط عزل الاسلاميّين في الزاوية وطردهم من الحكم ، بل وهو المهم الانفكاك عن مسار الانتقال الديمقراطي واستنبات سبيل جديد لإعادة منظومة الدكتاتوريّة والاستبداد والقمع وإعادة مثيل لمحارق إستئصاليّة سابقة كان آخرها محرقة الاسلاميّين في تسعينيات القرن الماضي عندما اتّكأ النظام النوفمبري على نخبة علمانيّة ويساريّة مغلوبة بحقد إيديولوجيّ وكراهية لهويّة الشعب ومعتقداتها.
كانت اللحظة تاريخية أمام الشيخ راشد الغنوشي وبحسّه السياسي وعمق نظرته الاستشرافيّة اختار الطريق الأصعب على حزبه ومكانته داخل الطيف السياسي والحزبي ولكنّه كان الاختيار الأمثل لإنقاذ البلاد من مآلات خطيرة كان الانقلابيون يدفعون  دفعا نحوها سواء بتهديدهم بالاغتيال الثالث أو استدعائهم للسيناريو المصري الدموي.
الآن لا ترى المعارضة وخاصة المنتمية للجبهة الشعبية وللتيار اليساري المؤدلج في الحوار الوطني ومبادرة الرباعيّة وفي خارطة الطريق الا مدخلا لإنهاء حكم الاسلاميّين وحلفائهم وإسقاط حكومة علي العريّض ، في حين تستحضرُ النظرة الوطنيّة والتاريخية رهانات اللحظة محلياً وإقليميا ودوليا في مائدة الحوار الوطني وما ستنتهي اليه من تعهدات والتزامات ، سيشهدُ عليها الرأي العام المحلي والمنظمات الأربع وأصدقاء تونس ، في قطع خطوة جديدة نحو البناء الديمقراطي تُنهي أحلام الانقلابيين والباحثين عن افتكاك السلطة خارج المسار الانتخابي وبعيدا عن صناديق الاقتراع.
النهضة اليوم ، ومثلما أبرز ذلك رئيسها ، أكّدت للتونسيّين وللعالم ، أنّها غير مسكونة بهواجس السلطة ولا ترغبُ ، مثلما يُروّجُ عنها ، في الهيمنة على الدولة والسير بالبلاد نحو استبداد أو دكتاتوريّة جديدة ، أكّدت بمجال لا يرقاه شكّ أنّها تُعطي الآولويّة المطلقة للوفاق الوطني والوحدة الوطنيّة ولإنجاح التجربة الديمقراطية الناشئة على حساب حقوقها السياسية وأغلبيتها الانتخابيّة التي ومهما ارتفعت فهي لا ترقى لحقوق الشعب والوطن والثورة ومسار الانتقال الديمقراطي وحقوق الأجيال القادمة.
- رهان الصراع على السلطة
رهنت المعارضة حراكها السياسي في الصراع على السلطة ، وقادت الجبهة الشعبيّة قطار هذه المعارضة مخطّطا لتنفيذ انقلاب ناعم بعد أن عاينت العزم الذي يحدو الاسلام السياسي التونسي وحلفائه من العلمانيين المعتدلين للقطع مع منظومات الاستبداد والدكتاتوريّة والهيمنة والانفراد والجديّة التي ميّزت حراكها ونضالها وحكمت التنازلات المؤلمة التي قبلت بها ولا تزال في سبيل بناء مسار سياسي جديد للبلاد ومنظومة حكم مُغايرة لما عاشتهُ البلاد طيلة أكثر من خمسة عقود.
حالة الفوضى والعراقيل التي عرفتها الحياة الاقتصادية والاجتماعية والتأسيسيّة في بلادنا منذ انتخابات 23 اكتوبر 2011 وربّما حتى فبل ذلك التاريخ ، والاغتيال الاول والاغتيال الثاني ومخطط الاغتيال الثالث الذي تنبّأ به زعيم الجبهة الشعبيّة حمة الهمامي وبكونه سيضرب شخصية إسلامية ، لم يكن القصد والمبتغى منها جميعا هزيمة النهضة وحلفائها بل كان القصد أعظم من ذلك وهو النكوص عن الخيار الديمقراطي وإفساد الطريق نحو تحقيق أهداف الثورة والقضاء على أحلام لذيذة عاشتها أجيال متعاقبة من التونسيين والتونسيات في التعددية والحريّة والديمقراطيّة والتعايش والتداول السلمي على السلطة.
أسقط "إمضاء الغنوشي" حسابات الانقلابيين وعديدون قيموا حنكة الرجل وشجاعته في تنفيذ تلك الحركة التي أعطت إشارة واضحة لمسار الخروج من الازمة السياسية التي راهنت أطراف من المعارضة على الوصول بها درجة التعفّن حيث لا يكون بعدها الا السيناريو المصري ( اي الانقلاب ) مثلما قال بذلك النائب المنسحب عن الوطد الموحّد المنجي الرحوي الذي صرّح مباشرة اثر مهزلة مسرحية الندوة الصحفيّة للعقيلي الطيّب أنّه لا حوار بعد تلك الحقائق التي ظهرت لاحقا أنّها عمليّة تحيّل وتحايل سياسي مع دعاة العنف وحماة الارهاب وأنه لا خيار الا الانقلاب على الطريقة المصرية المرعبة والدمويّة.
 الحوار الوطني الذي أرادهُ الانقلابيّون بوابة ومدخلا لانتزاع السلطة من الاسلاميّين واستبدالها بسلطة جديدة على المقاس تُلغي كلّ الشرعيات وتُعطّل مسار بناء المؤسسات الديمقراطيّة الجديدة لفائدة حكومة قيل أنّها ستكون مُحايدة تحكم البلاد وتسوس الناس بالمراسيم ودون أدنى رقابة ، ذلك الحوار تحوّل إلى انتكاسة للخيار الانقلابي وبداية تفعيل جدي وسريع للبناء الديمقراطي من خلال التوافق قريبا على دستور جديد وهيئة عليا مستقلة للانتخابات وقانون انتخابي وستكون تلك الحكومة بمهام واضحة في رعاية المسار نحو انتخابات نزيهة وشفافة تصل بالبلاد والثورة الى مرحلة الحكم الدئم والمستقر وتؤسّس فعلا لنجاح الربيع العربي في تونس.
لقد عرفت القوى الوطنيّة الصادقة المؤتمنة على خيارات الشعب كيف تُجابه أشدّ العواصف والأعاصير وحوّلت ما اعتبر السبت الفارط هزيمة وتخاذل وخيانة للثورة الى نصر مبين قضى على ما بقي من أحلام "رعاة" الانقلاب الناعم.
كان التصرّف ، الذي رعاهُ الغنوشي ، ناعما أيضاً وأجاب على نوايا الإقصاء والحشر في الزاوية والإبعاد والاستثناء والانقلاب بنوايا صادقة في التخفّف من أعباء الحكم والتنحّي الطوعي والارادي عن السلطة لفائدة سحب البساط من تحت أقدام المزايدين والمتهافتين على السلطة والمتمعشين لعقود طويلة من الاستبداد والقمع وهيمنة الحزب الواحد.
- لطمة شديدة وانكسار مخزّ
تقفُ النخب العلمانيّة واليساريّة اليوم في تونس وفي عدد آخر من البلدان العربية ( على غرار مصر) أمام لطمة شديدة أبانت عن وجههم الانقلابي المعادي للحريّة والمانع لخيار الشعوب في الانعتاق من ربقة الاستبداد والدكتاتورية ، ونفس هذه النخب التي نجحت لعقود طويلة في قطع البلدان العربية عن معايشة الديمقراطية تقف اليوم بنفس آلياتها القديمة ممنية النفس بإعادة نفس المسارات ولكن مسعاها هذه المرة سيخيب وسيفشل في ظل وعي شعبي ونهضة سياسيّة وأنفاس تحرريّة حقيقيّة أينعت بالربيع العربي الذي انطلق من تونس وانكسر مؤقتا في مصر بوقوف العلمانيين بسارييهم وقومييهم وبعثييهم جنبا الى جنب مع العسكر في مظهر مخزّ وتعيس.
ولأنّ العسكر في تونس ، مؤسسة وطنية حامية للحراك المدني رافضة للانغماس في أتون السياسة وأدرانها ، استحدث علمانيو تونس مسالك أخرى مباركين الانقلاب المصري مستحثين خطاهم لوأد التجربة الديمقراطية ولكنهم اصطدموا بإرادة سياسيّة مقابلة غير مُتنطّعة تفهمُ فقه الواقع وتقدّم التنازلات كلما كان ذلك لازما وتُصرّ على تغليب الشأن الوطني الواسع والممتد حاضرا ومستقبلا على الشأن الحزبي الضيّق والمحدود، وتنتصر للتأسيسي الديمقراطي على التطاحن على السلطة.  
انتهى الانقلاب الناعم بصدمة غير منتظرة وبسلوك مقابل ناعم يذهبُ بالبلاد الى محطة جديدة ثابتة تحت أنظار الرأي العام المحلي والدولي تأسيسا لديمقراطية فعليّة غير زائفة ورفضا لكلّ مؤمرات التخريب والفوضى ولكل أشكال التطاحن على السلطة او التنازع عن الحكم.
انطلق الربيع العربي من تونس ، ومسار الحوار الجاري اليوم يُبيّن كيف أنّ تونس أيضاً رائدة في حماية ذلك الربيع وصدّ مختلف أوجه الانكسار والنكوص عن الخيار الديمقراطي وإفشال مختلف أصناف الانقلابات سواء أكانت "بيضاء" أو "ناعمة". 
التنافس على السلطة مشروع لكن له أطره الانتخابية والدفاع عن التأسيس الديمقراطي جهد دائم ونضال مستمر لا يتوقّف ولا تردّه الدسائس ولا تكبرُ عنه التنازلات حتى تلك المؤلمة منها.
فشلوا مرّة أخرى ...وإن أعادوا سيفشلون.          
تونس - الضمير - محمّد القاسم
 

ليست هناك تعليقات: